مصعب بن عمير العبدري القرشي، يكنى أبا عبد الله. كان من فضلاء الصحابة وخيارهم، ومن السابقين إلى الإسلام، أسلم ، في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، وكان يلتقي برسول الله سرا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري يصلي، فأعلم أهله وأمه، فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسا إِلى أن هاجر إِلى أرض الحبشة، وعاد من الحبشة إِلى مكة، ثم هاجر إِلى المدينة المنورة بعد العقبة الأولى ليعلم الناس القرآن الكريم، ويصلي بهم.[1]
((نسبه))
هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، العبدري القرشي الكناني.
((قبل إسلامه))
كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابا وجمالا وسبيبا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير ".[1]
((بعد إسلامه))
الزهد في العيش وترك الملذات:
أسلم مصعب ، فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام، ولما أسلم زال ما كان عنده من لذائذ الدنيا ونعيمها، وعاش عيشة المؤمن الصابر الزاهد، فجاع وتعذب في سبيل الله، لإعلاء كلمته ونشر دعوته، والأدلة على ذلك كثيرة، فعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا قوماً يصيبنا صلف العيش بمكة مع رسول الله وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك، وصبرنا له، وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثم لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديدا حتى لقد رأيت جلده يتحشف تحشف جلد الحية عنها حتى أن كنا لنعرضه على قسينا فنحمله مما به من الجهد، وما يقصر عن شيء بلغناه، ثم أكرمه الله عز وجل بالشهادة يوم أحد.[2]
وعن علي بن أبي طالب قال: إنا لجلوس مع رسول الله في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله بكى للذي كان فيه من النعمة وما لهو هو فيه اليوم، فقال رسول الله : كيف بك إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى، وسترقم جدر بيوتكم كما تستر الكعبة، فقالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة؟ فقال رسول الله : أنتم اليوم خير منكم يومئذ.[2]
هجرته إلى الحبشة:
كان مصعب بن عمير من بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة بعد أن اشتد العذاب على الصحابة رضوان الله عليهم في مكة المكرمة.
هجرته إلى المدينة المنورة
بعث رسول الله مع أهل المدينة بعد بيعة العقبة الأولى مصعب بن عمير، وأمره أَن يقرِئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى "المقرِئ" بالمدينة. وكان منزِله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كرِه بعضهم أن يؤمه بعض.
عودته إلى مكة المكرمة مع الأنصار:
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهِم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله العقبة، من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهِم ما أراد من كرامته، والنصرِ لنبيه، وإعزازِ الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.[3]
قصة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير:
كان إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد مصعب، وذلك أن أسيد بن حضير خرج مع أسعد بن زرارة إلى حائط من حوائط بني النجار معهما رجال من المسلمين، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير: ائت هذا الرجل، فلولا أنه مع أسعد بن زرارة وهو ابن خالتي كما علمت كنت أنا أكفيك شأنه، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم خرج حتى أتى مصعبا فوقف عليه متشتما، وقد قال أسعد لمصعب حين نظر إلى أسيد: هذا أسيد، من سادات قوم، له خطر وشرف، فلما انتهى إليهما تكلم بكلام فيه بعض الغلظة، فقال له مصعب بن عمير: أوتجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه، قال أسيد: ما بهذا بأس، ثم ركز حربته وجلس، فتكلم مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال أسيد: ما أحسن هذا القول! ثم أمره فتشهد شهادة الحق، وقال لهم: كيف أفعل؟ فقال له: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل ورجع إلى بني عبد الأشهل وثبتا مكانهما، فلما رآه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد رجع إليكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليه قال له سعد: ما وراءك؟ قال: كلمت الرجلين فكلماني بكلام رقيق، وزعما أنهما سيتركان ذلك، وقد بلغني أن بني حارثة قد سمعوا بمكان أسعد فاجتمعوا لقتله وإنما يريدون بذلك إحقارك وهو ابن خالتك، فإن كان لك به حاجة فأدركه، فوثب سعد وأخذ الحربة من يدي أسيد وقال: ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج حتى جاءهما ووقف عليهما متشتما، وقد قال أسعد لمصعب حين رأى سعدا: هذا والله سيد من وراءه، إن تابعك لم يختلف عليه اثنان من قومه، فأبلى الله فيه بلاء حسنا، فلما وقف سعد قال لأسعد بن زرارة: أجئتنا بهذا الرجل يسفه شبابنا وضعفاءنا والله لولا ما بيني وبينك من الرحم ما تركتك وهذا، فلما فرغ سعد من مقالته قال له مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته وإن خالفك شيء أعفيناك، قال: أنصفت، فركز حربته ثم جلس، فكلمه بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال سعد: ما أحسن هذا! نقبله منك ونعينك عليه، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل، ثم خرج سعد حتى أتى بني عبد الأشهل، فلما رأوه قالوا: والله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليهم قالوا: مما جئت؟ قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون رأيي فيكم وأمري عليكم؟ قالوا أنت خيرنا رأيا، قال فإن كان كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وحده وتشهدوا أن محمدا رسول الله وتدخلوا في دينه، فما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلم.[4]
قتله في غزوة أحد واستشهاده:
كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في غزوة أحد، إذ لما كانت غزوة أحد، سأَل رسول الله : "من يحمل لواء المشرِكين؟"، قيل: بنو عبد الدارِ. قال: "نحن أحق بالوفاء منهم. أين مصعب بن عمير؟"، قال: ها أنا ذا، قال: "خذ اللواء". فأخذه مصعب بن عمير، فتقدم به بين يدي رسول الله صلى اللَّهُ عليه وسلم.[5]
ولما بدأت المعركة حمل أبي بن خلف على رسول الله ليضرِبه، فاستقبله مصعب بن عمير يحول بنفسه دون رسول الله ، فضرب مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول الله فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور.[5]
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ومعه لواؤه حتى قتل، فكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ، فرجع إلى قريش فقال: قد قتلت محمداً. فلما قتل مصعب أعطى رسول الله علي بن أبي طالب اللواء.[2]
وعن عبد الله بن الفضل، قال: أعطى رسول الله مصعب بن عمير اللواء، فقتل مصعب فأَخذه ملك في صورة مصعب، فجعل رسول الله يقول لمصعب في آخرِ النهارِ: "تقدم يا مصعب"، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف رسول الله أنه ملك أيد به.[5]
ومر رسول الله على مصعب بن عمير (بعد أن استشهد) فوقف عليه، ودعا، وقرأ:"(رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُمْ مَنْ قَضى نحبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا)، أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأْتوهم وزوروهم وسلموا عليهِم، والذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه". ومر رسول الله على مصعب ابن عمير، وهو مقتول في بردة، فقال: "لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أَرق حلةً ولا أَحسن لمّةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة". ثم أمر به يبر، ونزل في قبره أخوه أبو الروم، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حرملة.[5]
وأقبلت حمنة بنت جحش وهي زوجة مصعب ، فقال لها رسول الله : "يا حمن، احتسبي"، قالت: من يا رسول الله؟ قال: "خالك حمزة". قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، فهنيئا له الشهادة، ثم قال لها: "احتسبي"، قالت: من يا رسول الله؟ قال: "أخوك"، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئا له الجنة، ثم قال لها: "احتسبي"، قالت: من يا رسول الله؟ قال: "مصعب بن عمير"، قالت: وا حزناه! ويقال إنها قالت: وا عقراه! فقال رسول الله : إن للزوج من المرأة مكانًا ما هو لأَحد. ثم قال لها رسول الله : "لم قلت هذا؟"، قالت: يا رسول الله، ذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا رسول الله لولده أن يحسن عليهِم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولده. وكانت حمنة خرجت يومئذ إلى أُحد مع النساء يسقين الماء.[5]