أما تفسير المتكلفين فهم من العصور المتأخرة، من عهد الرازي إلى هذه العصور، يقول بعض العلماء: إن الرازي أدخل في كتابه كل شيء إلا التفسير. فهو أدخل الكيمياء والفيزياء والطب والهندسة والتاريخ والجغرافيا لكن لم يتكلم فيه بالتفسير.
فهو مر وترك التفسير على شماله، وما التفت إليه حتى وصل سورة الناس، لكن فيه بعض اللمحات واللطخات من التفسير، وهو يجهل الحديث النبوي مع أنه عقلية كبيرة، حتى إنهم فضلوه على ابن سينا -ابن خالته وعمته في المنهج- يقول الشاعر:
كذب امرؤ بـأبي علي قاسه هيهات يبلغ مستواه أبو علي
ومن اللطائف أن الرازي يقول عنه ابن كثير أن عنده خمسين من الخدم، وكانت ملوك خوارزم تعظمه.
وكان فصيحاً داهية لكنه ما تعلم الإيمان والحب والطموح من الكتاب والسنة، ولم يقرأ الحديث قراءة مكثفة، بل قرأ فلسفة سقراط وأرسطو وعماتهم وخالاتهم، وهذه عملة مزيفة، إذا أركبتها عملة محمد صلى الله عليه وسلم سقطت ولا تصلح، فإذا أتت عملة مختوم عليها من طيبة المدينة من محمد صلى الله عليه وسلم وتحت الختم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فاقبلها وإلا فردها فهي لا تصلح.
فهو أخذ ختمه من سقراط وبقراط وأفلاطون وأتباعهم وأشباههم، فتموج الرجل وما انضبط.
كان جالساً في المسجد بعد صلاة الفجر يدرس الناس الفلسفة، فتكتفت حمامة من البرد فوقعت على بردته فأخذها فضمها، فقال أحد الشعراء وهو جالس هناك:
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صبٍ واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكـم حرم وأنك ملجأ للخائف
وهذا من أحسن ما قيل، على أننا لا نوافقه أنه (ملجأ للخائف) إلا بعد الله، لكن هذه من أحسن الكلمات، من يستطيع أن يأتي بهذا الإبداع، حمامة سقطت فاعتذر لها وقال: إنها خائفة، فأتت إلى الشيخ لتشكو إليه.. هذا تصوير أدبي، وهل الشعر إلا خيال وأسلوب؟!
أما أن تقول للشجرة شجرة ولليل ليل وللنهار نهار فما فعلت شيئاً.
يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد : بعض الشعراء يقول:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار
فهذالم يأت بشيء.
جلس أحد الطفيليين مع بعض الشعراء فحلفوا عليه أنه لا يقوم حتى يقول بيتاً -وهو ليس بشاعر، بل هو أكال فقط، يأكل ويشرب مجاناً- فقالوا: لا تقوم حتى تقول شعراً، فنظر فرأى النهر حوله ونظر إلى الشعراء وقال:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء
وهذا ليس إبداعاً.
والمقصود: أن هؤلاء المتكلفين يبدءون من الرازي ثم تصعد إلى أن تصل إلى هنا.
,الأستاذ الداعية المتحمس للإسلام، الباكستاني القوي، أبو الأعلى المودودي سقى الله عظامه شآبيب الرحمة، كان قلمه مارداً جباراً على الطغاة، وعلى المفسدين من الشيوعيين وأذنابهم، وكان له ترجمان القرآن ، تبدأ في الصباح باستهلاليتها، وكان بليغاً يأسر القلوب، حتى يقول أحد الناس: قرأت له مقالة، فأخذ قلبي بالمقالة فما رد قلبي إلى اليوم.
يقول: قبل أن تقرأ القرآن انزع من ذهنك كل تصور سابق عن القرآن، فالقرآن ليس بكتاب تاريخ -صدق- ولا بكتاب هندسة أو جغرافيا أو طب، بل القرآن كتاب هداية؛ ولذلك يأتي بعض المفسرين فيقولون: يقول الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] فمعنى ذلك: أن كل قضية لابد أن تكون في القرآن.. سبحان الله! كل شيء؟ قالوا: كل شيء.
على سبيل الدعابة: الإمام محمد عبده المصري الذي يسمونه إماماً مفسراً، وكان ذكياً لامعاً، توفي قبل سنوات، سافر في سفينة اسمها كوك إلى فرنسا ، ومعه خواجة مستشرق يقرأ القرآن، فأراد أن يسخر من محمد عبده يقول: يا محمد عبده ! يقول الله في كتابكم: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] فهل سمى السفينة هذه في القرآن؟ قال: ما اسمها؟ قال: كوك. قال: نعم، سماها في القرآن. قال: ماذا قال؟ قال: وتر كوك قائماً.. وهذه الآية التي في سورة الجمعة في قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11] أي: تركوا الخطيب قائماً، لكنه يريد أن يهزأ من هذا ويضحك على عقله، وإلا فالقرآن ما أتى معجماً، حتى بعض الناس يقول: كيف لم يورد الله عز وجل تحريم الشيشة ولا الدخان في القرآن؟
ونقول له: على استطراداتك لماذا لم يذكر الميرندا والبيبسي والموز والتفاح..؟!! هل تريد القرآن أن يأتي معجماً لكل اسم يرد في الكون؟ فلا تسعه الدور ولا القصور.
فالقرآن قواعد كلية، يأتي بقاعدة تندرج فيها ملايين القضايا، فقوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ [الأعراف:157] أدخل فيه مليون قضية، وقوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] أدخل فيه مليون قضية.
واسمع ما يقول المتكلفون، فأحدهم يفسر -وتفسيره موجود- ويقول القرآن فيه أسس علم الهندسة.
قلنا: مثل ماذا فتح الله عليك؟
قال: الخط المستقيم أقرب موصل بين نقطتين. قلنا من أين أخذته؟ قال: من قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: والمثلث إحدى زواياه منفرجة. قلنا: من أين لك هذا؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31].
فالقرآن لم ينزل للتاريخ، ولم ينزل للجغرافيا، فلم يخبرنا متى ولد فرعون، ومتى تولى ومتى توفي. بل القرآن كتاب هداية، فلا بد أن نعرف هذا.
والقرآن ليس كتاب صرف، والآن كثير من التفاسير كلها صرف، ما تقرأ فيه إلا ويقول وأصل الكلمة فيعمل فانقلبت الواو إلى ياء، فماتت الأمة وذهبت معتقدات الأمة ونحن من فيعل إلى فعول كانت ياءً فقلبها الله حتى صارت واواً، صحيح أن هذا فن مختص لكن لا يصح أن ندخله ليكون تفسيراً.
وكثير من التفاسير كلها نحو، ما تقرأ إلا ويقول: الفاعل.. المفعول.. الحال.. المبتدأ.. الخبر، حتى تجد في القلوب قسوة، ننظر في السبورة والأستاذ يشرح فيقول: قال أصلها قول، وهي من الفعل الماضي، قال زيد لعلي: كذا وكذا.
أين هذا الإبداع الذي أتى به القرآن؟ فالقرآن ما أتى لهذا بل أتى لمقاصد أبينها إن شاء الله.
ثم هو ليس كتاب جغرافيا -كما قلت- فما ذكر المناخ ولا التضاريس، وما ذكر هبوب الرياح ولا دراجات الحرارة، ولا ذكر الصادرات والواردات وأهم المدن، بل هو كتاب هداية. لذلك يريد سيد قطب أن يقرر هذا المبدأ جزاه الله خيراً في كتاب الظلال ، فهو يقرره دائماً، ويقول: كتاب هداية.